هذه أيام فاضلة، وليال مباركة، جعلها الله موسماً للخيرات ، فيها تضاعف الحسنات ، وتمحى السيئات ، وتتنزل الرحمات ، وتجاب الدعوات ، فالسعيد من تعرّض لهذه النفحات ، واغتنم فيها الأوقات ، واشتغل فيها بالصالحات . وفضل العشر الأوائل من ذي الحجة مشهور تشهد به الآيات والأحاديث ، فالله - سبحانه وتعالى - عظّمها حين أقسم بها في قوله تعالى : { والفجر * وليال عشر } ، قال ابن عباس وابن الزبير – رضي الله عنهم - ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف : هي عشر ذي الحجة .
وأما الأحاديث ، فقد روى الإمام البخاري - رحمه الله - في صحيحة عن ابن عباس – رضي الله عنهما ، عن النبي – صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى من هذه الأيام ) - يعني عشر ذي الحجة - قالوا : يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله ؟، قال : ( ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء ) ، وهذا حديث عظيم في بيان فضل هذه العشر وما فيها من عظيم الأجر ، حيث جعل العمل فيها أفضل وأحب من العمل في غيرها ، والحديث يدلُّ على مضاعفة جميع الأعمال الصالحة من غير تخصص أو استثناء .
وقد استحب العلماء الصيام فيها ؛ لأن الصيام من أخص وأفضل العبادات ، فالرب - سبحانه وتعالى - يقول في الحديث القدسي : (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزئ به) ، وعندما سئل النبي – صلى الله عليه وسلم - عن عمل صالح عظيم الأجر قال : ( عليك بالصوم فإنه لا عدل له) وفي رواية: ( لا مثل له ).
والذكر مستحب أيضاً لقوله تعالى: { ويذكروا اسم الله في أيام معلومات } وهي الأيام العشر من ذي الحجة عند جمهور العلماء ، وروى الإمام أحمد - رحمه الله - في مسنده عن ابن عمر – رضي الله عنهما - عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : ( ما من أيام أعظم ولا أحب إليه العمل عند الله فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد ) واستحب الإمام الشافعي - رحمه الله - إظهار التكبير ، وأورد الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عمر وأبي هريرة – رضي الله عنهما - أنهما كانا يخرجان إلى الأسواق في أيام العشر فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما .
وقيام ليال العشر وإحياؤها مستحب ؛ لعموم ما ورد فيها من الفضل ، ونص عليه الإمام الشافعي ، وكان يقول :" لا تطفئوا سرجكم ليال العشر " .
وفي هذه العشر يوم عرفة ، وهو أفضل الأيام كما روى جابر – رضي الله عنه - عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - فيما أخرجه ابن حبان - رحمه الله - وهو يوم مغفرة الذنوب للحجاج ، كما ورد في صحيح الإمام مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : ( ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيداً من النار، من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة ) ، وخير الدعاء دعاء يوم عرفة ، كما أخبر المصطفى – صلى الله عليه وسلم - . وغير الحاج له في يوم عرفة فرصة مغفرة الذنوب أيضاً ، فقد صح عن أبي قتادة – رضي الله عنه - عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : ( صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفّر السنة التي قبله والتي بعده ) ، وروى الإمام أحمد - رحمه الله - من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : ( يوم عرفة هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له ) .
وعاشر هذه الأيام يوم النحر ، وهو يوم الحج الأكبر الذي قال فيه رسول الهدى - عليه الصلاة والسلام - : ( أعظم الأيام عند الله يوم النحر ويوم القر ) ، وهو أكبر العيدين وأفضلهما ؛ لأنه يكون في وسط فريضة الحج ، ولكونه بعد يوم عرفة الأغر ، ولما فيه من التقرب إلى الله بذبح الأضاحي والهدي .
وأيام التشريق تتبع العشر ، وفيها أخرج أصحاب السنن - رحمهم الله - عن عقبة بن عامر – رضي الله عنه - عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : ( يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام ، وهي أيام أكل وشرب وذكر لله ) .
قال ابن رجب الحنبلي - رحمه الله - : " لما كان الله - سبحانه وتعالى - قد وضع في نفوس المؤمنين حنيناً إلى مشاهدة بيته الحرام ، وليس كل أحد قادر على مشاهدته في كل عام ، فرض على المستطيع الحج مرة واحدة في عمره ، وجعل موسم العشر مشتركاً بين السائرين والقاعدين ، فمن عجز عن الحج في عام قدر في العشر على عمل يعمله في بيته يكون أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج " .